صُورٌ من الحياة

صُورٌ من الحياة

كاميرا مصوّر الشارع عبد الرحمن صالح توثق الكثير من الحكايات وتعيد رسم وجوه وأماكن شكلت تاريخ المملكة
18 يوليو 23
Abdulrahman Saleh Street Photographer
Share

تمتد شوارع المدينة وتتشعب كالأوردة فتقودنا إلى حيوات وقصص أولئك الذين يتنقلون عبرها من مكان إلى آخر. وهذا ما يسعى إلى توثيقه المصور الفوتوغرافي عبد الرحمن صالح. فهو يسير في هذا العالم دون عناء، فيلتقط المشاعر الخام وردود أفعال المارة في كل أنحاء المملكة العربية السعودية.

ولد عبد الرحمن في الصومال ونشأ في السعودية حيث بدأ تصوير الشوارع في سن مبكرة. ومنذ ذلك الحين أتقن فن استخدام عدسته ليكشف فصول حكايات كانت لتبقى، من دون ذلك، غير مروية.

وإذ يحدثنا عن تجربته يقول: "بدأت التصوير في العام 2012. كنت طالباً واستخدمت في البدء كاميرا هاتفي الخلوي، فأنا لم أكن أمتلك كاميرا حينها. وفي تلك المرحلة، كنت أستقل الحافلات وألتقي عدداً كبيراً من الأشخاص وأتعرّف على أماكن كثيرة. وهكذا أدركت أن عليّ التقاط بعض اللحظات والمواقف والمشاهد".

بداية العرض

قرر عبد الرحمن تطوير قدراته في مجال التصوير الفوتوغرافي. لذا اشترى أولى كاميراته وكانت من نوع Nikon M-308، وبدأ التقاط الصور لكل ما يجري في محيطه. ويتذكر ذلك بالقول: "في اليوم التالي بعد شرائي الكاميرا، ذهبت إلى حي البطحاء في الرياض والتقطت الكثير من الصور على طريقة البورتريه".

ومن خلال كل صورة قام بالتقاطها، حرص عبد الرحمن على إقامة روابط ذات معنى مع الناس الذين وقفوا أمام عدسته، فنسج بواسطة صوره حكايات عن الأمل والتحديات. وهو يوضح هذا ويقول: "أرى أن كل صورة التقطتها تنطوي على قصة من نوع ما. فعادة، وقبل أن أقوم بالتقاط صورة للأشخاص، أقدّم نفسي وأحاول التعرف إليهم، وهكذا أحتفظ ببعض ذكرياتهم وحكاياتهم".   

المزمار. رقصة فولكلورية شعبية في الحجاز

ومنذ أن حمل الكاميرا الأولى، لم يتوقف عبد الرحمن عن التصوير. فقد تحول الأمر بالنسبة إليه إلى هاجس وبات مولعاً بالتقاط صور لمناظر المدينة، قبل أن يصبح التصوير مهنته. ومكنه هذا الشغف من الحصول على جائزة صالح العزاز في العام 2019. واليوم يبدي ولعه بالتقاط الصور حيث يصطحب كاميرا أو اثنتين إلى كل مكان يقصده. وهو ما يشدد عليه قائلاً: "أضع دائماً كاميرا في حقيبتي. وفي حال لم أستخدمها تجدني ألتقط الصور بواسطة هاتفي. وفي الحالتين، أعبر عن حاجتي إلى التقاط الصور. فالعلاقة بيني وبينها أشبه بالعلاقة بين السمك والماء". 

ذكريات لا تُمحى

خلال أولى الجولات التي قام بها من أجل التعرف على العالم المحيط به، وجد عبد الرحمن ضالته في التصوير الفوتوغرافي. فقد شكل ذلك بالنسبة إليه ملاذاً إبداعياً بعيداً عن متاعب العمل. في الواقع، تضمن أحد مشاريعه الأولى توثيق تلك الأوقات التي كان يمضيها 30 من زملائه في الحافلة، حيث التقط لهم الكثير من الصور العفوية.

مشروع غير مكتمل يضم صور زملاء يستقلون حافلة تتسع لـ30 راكباً، وقد تم التقاط اللحظات بطريقة عفوية مع تسليط الضوء على حضور هؤلاء وشخصياتهم

وعن هذه التجربة يقول: "طلبت من كل منهم أن يصف اللحظة بكلمة واحدة دونتها أسفل الصورة. وبعد هذا أردت لهم أن يقوموا بفعل يجعلهم يشعرون بالسعادة، مثل شرب الشاي، الرقص، أو أي أمر آخر، وقمت بتوثيق ذلك، وقدمت لهم الصور كتذكارات".

ومنذ ذلك الحين، نفذ المصور مشاريع عدة. ومن أبرز صوره تلك التي تظهر المشهد الأخير لباص أنهى خدمته. فقد ظل المصور يستقله يومياً بين العامين 2009 و2013 إلى أن أعلنت الحكومة وقف خدماته.   

تبدّل ثقافي

رغم أن التغييرات التي طرأت على المشهد الاجتماعي في السعودية جعلت التصوير الفوتوغرافي في الشارع مهمة أكثر سهولة، إلا أن عبد الرحمن ما زال يواجه بعض التحديات وخصوصاً كلما تعين عليه التقاط الصور للأشخاص.

وهو يروي هذه التجربة بالقول: "كنت خجولاً وخائفاً. لكن مع مرور السنوات أصبح الأمر أكثر سهولة بالنسبة إلي، فقد اكتشفت أن الكثير من الأشخاص يوافقون على أن التقط الصور لهم فيما يرفض آخرون ذلك"، ويتابع: "أتذكر أنني التقطت الصور لبعض المشجعين على هامش مباريات كأس العالم وقد استدعى بعض الأشخاص رجال الشرطة! لذا بت أدرك اليوم كيفية التمييز بين المشاهد التي يمكنني التقاط الصور لها وبين تلك التي لا يسعني توثيقها بواسطة عدستي".

أمين السعيد: عاش تجربة غناء في الرياض استمرت ثلاثين عاماً وكان غالباً ما يؤدي أغنيات الفنان السعودي الراحل المعروف بلقب "صوت الأرض" طلال مداح. وفي السنوات الـ20 الأخيرة، امتلك السعيد في سوق الطرب متجراً كان يقصده فنانون منهم مزعل فرحان، سعد جمعة، والدكتور عبد الرب إدريس

ويبدو تنوع الأساليب ظاهراً في صور الأشخاص التي يلتقطها عبد الرحمن في الشارع. وهو يبرز هذا الاختلاف من خلال تواصله مع كل من يقف أمام عدسته: "أريد تصوير عيونهم، تفاصيلهم، وشخصياتهم".

ومع التطور الكبير الذي يشهده العالم على مستوى الذكاء الاصطناعي وخصوصاً في مجال الفنون البصرية، لا يبدي المصور انزعاجه، إذ يرى أنه يمكن للتكنولوجيا أن تصنع العجائب، لافتاً إلى أنها لا تشكل البديل لجوهر الواقع. وهو يشجع كل المصورين الفوتوغرافيين وصانعي المحتوى على عدم التوقف عن الاستكشاف. 

 تركيز إبداعي

بواسطة كاميرا Nikon 100F لا يتوقف عبد الرحمن عن القيام بما يحب، آملاً عودة الجوهر الحقيقي إلى فن تصوير الشارع. وعن هذا يقول: "في أيامنا هذه لم يعد التصوير الفوتوغرافي في الشارع كما كان عليه من قبل. أتمنى أن يحافظ كل منا على شغف البدايات وأن أرى مصورين آخرين يحترفون هذا النوع من التصوير، سواء كانوا يستخدمون هواتفهم الجوالة أو كاميراتهم".

ويتحدث المصور عن اللقطات التي يتم تحضيرها مسبقاً قائلاً: "يصف بعض المصورين أنفسهم بأنهم مصورو شارع، لكنهم يطلبون من الأشخاص، مواضيع صورهم، أن يقوموا بحركة ما عمداً. في الحقيقة لا يمكن تركيب صورة الشارع، إلا أنني قد أطلب من الأشخاص تكرار ما فعلوه في حال لم أتمكن من التقاطه في المرة الأولى".

سوق الحليلة في الأحساء. هو سوق شعبي يستقبل الرواد منذ سنوات مرتين أسبوعياً في شوارع الحليلة (بل في أزقتها) حيث يتدفق السكان إلى أكشاكه منذ ساعات الصباح الأولى

وفي إطار حرصه المتواصل على استكشاف عالم التصوير الفوتوغرافي، يرى المصور الشاب أن صور المدن وسكانها ستبقى حاضرة لتقص الحكايات وتشكل الذكريات التي ستُستعاد في عقود تالية: "أعتقد أن الصور لا تتغير خلافاً للأشخاص. ففي أحيان كثيرة، أذهب إلى منطقة ما لالتقاط الصور ثم أتوقف في أحد المتاجر لأرى فقط أن المكان ظل على حاله وأن المالك تغير".

في السنوات الأخيرة جاب عبد الرحمن شوارع جدة، إلا أنه يتوق اليوم للعودة إلى الرياض ولالتقاط الصور للمدينة دائمة التغيير في مظهرها وفي نسيجها الاجتماعي. أما العامل المشترك بين كل الأماكن التي قد يزورها فهو أنه سيركز دائماً على التقاط سحر كل ما يحيط به، حتى التفاصيل التي لا يلاحظ أحد وجودها.

ويوضح المصور هذا بالقول: "أثناء قيامي بالتقاط الصور في البطحاء أو في أي مكان آخر، أحسن اختيار موضوعها عن بعد. فبعض الأشخاص مثلاً يتمتعون بالجاذبية فيحصلون على صور مميزة. يمكنني اكتشاف هؤلاء وسط حشد يضم مئات آخرين. لذا أتجه نحوهم مباشرة وأتحدث إليهم قبل أن أوثق حكاياتهم".

 إذاً لا شك في أن فن اختيار الموقع المثالي أو اكتشاف مصدر الإلهام يتطلبان الخبرة. من هذا المنطلق يمكننا القول إن عبد الرحمن مصور محنك، يتنقل بمهارة وسط عناصر مشاهد إبداعه ومناظر المملكة دائمة التغيير.